آخر الأخبار

الصادق المهدي يكتب عن التطبيع: “الحبل الرابط بين التطبيع والتركيع والتقطيع”

الحبل الرابط بين التطبيع والتركيع والتقطيع.
بقلم : الإمام الصادق المهدي
أولاً: للأسباب الآتي بيانها إسرائيل ليست دولة طبيعية:
تكونت بشعار شعب بلا أرض لأرض بلا شعب. أكذوبة فسكان الأرض المعنية يسجل التاريخ لهم وجود منذ 3 ألف عام قبل ميلاد السيد المسيح، وظهر في عملات نقدية.
نعم اليهود أمة عانت من الاضطهاد الروماني الظالم، وحيث استقرت في دول إمبريالية واجهت اضطهاداً ما أفرز نحوها معاداة السامية. وفي مرحلة لاحقة في القرن التاسع عشر تكون شعار حزبي قومي هو العودة إلى أرض صهيون في أرض فلسطين، وهو شعار قومي تبناه يهود علمانيون خلافاً لموقف المؤسسة الدينية اليهودية – الحرادييم- شعار عبأ به يهود علمانيون الإشكانزي، اقتبسوا أساليب الكولنيالية لتكوين دولة إسرائيل للتمدد في الأرض واحتلالها وطرد سكانها، وساعدهم على ذلك تعاطف الدول المنتصرة في الحرب الأطلسية الأولى 1914-1918م. قال مايكل أورن Michael Orenالمؤرخ الأمريكي في كتابه بعنوان: القوة والاعتقاد والخيال: سياسة أمريكا في الشرق الأوسط منذ 1776م حتى الآن، قال: لا يوجد عمل في مجال الهندسة الاجتماعية الأممية أوقح من تأييد أمريكا لقيام دولة يهودية وسط عالم عربي شديد العداء لذلك. وقال إن النقاد منذ الحرب العالمية الأولى أجمعوا على مقولة إن هذا الإجراء سوف يؤدي لحروب مستمرة في المنطقة. وقد كان.
بعد أولى الحروب التي اندلعت بين الجماعات الصهيونية المسلحة والدول العربية والتي هزمت فيها الجيوش العربية بسبب خيانات وخلافات بينهم قررت الأمم المتحدة تقسيم أرض فلسطين الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن بين الحركة الصهيونية وأهل فلسطين. قرار قبلته الحركة الصهيونية وأعلنوا قيام دولة إسرائيل وطردوا حوالي 800 ألف من السكان، ولكن بقي منهم مئات الآلاف في إقليم دولة إسرائيل.
الأمم المتحدة يومئذٍ مكونة من 53 دولة، وهي الآن تمثل 193 دولة. إسرائيل فرضت وجودها بالقوة، وبعد هزيمتها للدول العربية في 1967م ضمت مساحة كبيرة: سيناء، وغرب الأردن، والجولان. ولإبرام صلح قررت الأمم المتحدة انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة بموجب القرار الدولي رقم 242، ولكن إسرائيل رفضت تنفيذه. هذا الاختلاف صار سبباً في حركات المقاومة الفلسطينية والعربية المختلفة ويمثل النزاع الملتهب في الشرق الأوسط.
بموجب الاعتماد على قوتها أبرمت إسرائيل اتفاقيات سلام مع الدول المجاورة: في 1978 اتفاقية كامب ديفيد مع مصر. وفي 1994م اتفاقية سلام مع الأردن.
وفي 1993م مع منظمة التحرير الفلسطينية. هذه الاتفاقية لم تنفذ بل اليمين الإسرائيلي قتل إسحاق رابين الداعي لها.
وجود جسم غريب معتمد على القوة لا الشرعية أدى بعد حرب 1973م إلى موقف حدده هنري كيسنجر في 1974م قائلاً: ينبغي انشغال العالم العربي بحروبه المحلية عن إسرائيل بهدف نهائي هو تقسيم العالم العربي رأسياً وأفقياً وإعادة خارطة دوله.
وقال اليمين الإسرائيلي بضرورة تفكيك الدول العربية. في 2006 أعلن كل من وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس ورئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت عن “الشرق الأوسط الجديد”، وفي يونيو 2006م نشرت صحيفة القوات المسلحة الأمريكية خارطة لهذا الشرق الأوسط الجديد شظيت فيها دوله لكيانات أصغر، وفي محاضرة بتل أبيب في في يوليو 2008 حاضر وزير الأمن الداخلي آفي ديختر في معهد الأمن والدفاع معتبراً أن تنفيذ تلك الخارطة ضروري لأمن إسرائيل.. هذه الخارطة ترى تفكيك السودان لخمسة دويلات بدءاً بالجنوب، ويوجد بحث قدمه باحث هو السيد إبراهيم يوسف حماد بعنوان: الدور الإسرائيلي في انفصال جنوب السوداني وتداعياته على الصراع العربي الإسرائيلي تتبع فيه رسم وتنفيذ تلك الخطة.
الكيان الصهيوني مصمم على التشبث بدولته وضم احتلالاته، وفي 2002م قررت الدول العربية تقديم مشروع تسوية للقضية أهملته إسرائيل، بل انتهزت وجود شخصيات صهيونية أمريكية: مستشار الرئيس الأمريكي، والمبعوث الأمريكي للشرق الأوسط، والسفير الأمريكي في إسرائيل لمزيد من التشدد واقتراح “صفقة القرن” الاسم الخادع فلا هي صفقة ولا صلة لها بالسلام، بل تعني تصفية القضية الفلسطينية، ولن تقبل أبداً بل ترسم خطوط العداء المستمر.
حقيقة الصفقات الراهنة هي التحضير لحرب ضد إيران.
إيران ستجد معها تحالفاً دولياً روسياً وصينياً وربما أوربياً، ولكنها تمثل كيان الشيعية السياسية الذي يضم عرباً في العراق، وفي لبنان، وفي سوريا، وفي البحرين، وفي اليمن، وعندهم قوى عسكرية غير رسمية مدربة ومسلحة ومعبأة عقائدياً كما أثبت الحوثيون في اليمن. وليس من مصلحة أية دولة عربية خوض حرب في تحالف مع إسرائيل إذ أن مجرد هذا التحالف سوف ينفر الشعوب، وكل بلاد طبعت مع إسرائيل مع وجود تعددية فكرية وسياسية أدت لردة فعل نقضت التطبيع كما في موريتانيا وفي لبنان.
ثانياً: للأسباب الآتية فإن للسودان دور مهم تستهدفه إسرائيل، وبيانها:
السودان بتكوينه الذاتي هو الواصل لما فصلته الصحراء الكبرى، وبتكوينه الجيوسياسي والثقافي والإثني ينتظر أن يقوم بدور عربي إفريقي مهم كانت القوى الإمبريالية دائماً تسعى للإبقاء على جفوة أو حتى عداء بين شقي الصحراء الكبرى.
السودان هو واسطة العقد في حوض النيل باعتباره الجار المشترك لأكبر دولة مستهلكة لمياه النيل، مصر، وأكبر دولة منتجة لها، إثيوبيا، وبينهما تعبئة عدائية ينبغي الحيلولة دون تفجير حرب بينهما مدمرة لهما بل انتحارية كما ذكرت في كتابي: مياه النيل الوعد والوعيد الذي طبعته عام 2000م مؤسسة الإهرام في مصر ونشرته مسلسلاً صحيفة الأهرام.
السودان هو الأجدر للقيام بدور تكامل تنموي بين شقي البحر الأحمر: غربه حيث الموارد الطبيعية الوافرة، وشرقه حيث الموارد المالية الوافرة.
تطبيع السودان يمثل إضافة نوعية لحركة التطبيع لأن فيه نظام سياسي مقنن للتعددية الفكرية والسياسية. كل تطبيع مع بلاد بهذه الصفة نقضته الشعوب كما في موريتانيا ولبنان.
السودان أرض اللاءات الثلاثة لتهزم بالنعمات المستجيبة وهو قد أعلن مع آخرين تلك اللاءات وهو حر الإرادة. ولكن يبدو الآن أننا سوف نساق بالعصا للتطبيع بادعاءات وهمية: فالإدارة الأمريكية لا تملك منفردة إلغاء الدين الخارجي وهو بيد نادي باريس وقد صار واضحاً أن للدول الأوربية الآن نهجاً مستقلاً. ومسألة اسم السودان في قائمة رعاية الإرهاب موضوعياً سقطت فلا يعقل تحميل الشعب المعتدَى عليه ذنوب المعتدِي عليه، والأمر على أية حال بيد المشرعين الأمريكان. أما حجم الغرامة المطلوب سدادها فهو بيد المتضررين والقضاء الأمريكي المستقل. الرئاسة الأمريكية تعطي ما لا تملك.
التطبيع بهذه الطريقة الابتزازية يدل على عدم وعي بإحساس السودانيين الكبير بالكرامة، وحتى الذين يؤيدون لأسبابهم إقامة علاقات مع إسرائيل سوف ينفرون من هذا الأسلوب المذل.
ثالثاً: قال كثير من عقلاء الأمريكان غير المشدودين لمكاسب حزبية انتخابية ضيقة إن الضغط على السودان ليطبع بهذه الطريقة سوف يؤدي لانقسام حاد في المجتمع السوداني، وسوف يشكل كرتاً رابحاً لقوى التشدد والتطرف في السودان. هذا ما قاله باحثون في معهد السلم الأمريكي التابع للكونغرس نشرت كذلك من قبل معهد بروكينقز Brookings Institute بعنوان “تطبيع العلاقات السودانية الإسرائيلية الآن لعبة خطرة”. ومعلوم أن سياسات أمريكية قصيرة النظرة حزبية الهوى قد أدت دوراً كبيراً في أجندات التشدد والتطرف في المنطقة. قالت هيلري كلينتون: نحن الذين كونا منظمة المجاهدين في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي. هذا عمل بدون أية ضوابط فأدى إلى أن تحول هؤلاء لتنظيم القاعدة، وبعضهم تحول لداعش، وهما الآن يتوسعان عبر شبكات تعد بالعشرات في آسيا، وأفريقيا، وأوربا.
وقال مارك كيرتس: ابن لادن، وطالبان، والظواهري، تعاملت بريطانيا معهم جميعاً لأغراضها السياسية. جاء هذا في صحيفة القارديان بتاريخ 5/7/2015م.
وفي مقابلة مع المبعوث الأمريكي للسودان بتاريخ 7 أكتوبر 2020م قلت له راعوا آثار سياساتكم التي تعود بنتائج عكسية، وقلت له إن إصراركم على جر السودان للتطبيع، وإن تخلفكم عن الاعتراف بالتغيير الثوري الإيجابي ورفع اسم السودان المستحق بعد الثورة مباشرة، والمناورة بهذا الموضوع سوف يساهم في إفشال المرحلة الانتقالية وتصير السياسة الأمريكية شريكاَ في تعويق التحول الديمقراطي وفتح المجال للمغامرات أو الفوضى أو تمدد حركات التشدد المختلفة.
قلت له إن أية سياسة تحقق عكس مقاصدها مؤذية لأصحابها.
كما قلت للمبعوث النرويجي بتاريخ 28 أكتوبر، أرجو أن تقوم بلادكم بنصح زملائها في الترويكا بخطر انتهاز هشاشة وضع السودان لإجباره على تطبيع مذل.
رابعاً: التطبيع بهذه الطريقة الخاطئة والمذلة سيجد تأييداً أهم عناصره:
بعض عسكريين يتوهمون أن التطبيع سوف يمنحهم حماية من أية مساءلة جنائية مع أن الرجلين المنوط بهما هذه الحماية، ترامب ونتنياهو، مرشحان للسجن في المستقبل القريب. الحماية أو العفو هو بيد المتضررين خاصة والشعب السوداني عامة.
بعض القوى الثورية ذات الأشواق الانفصالية يعتقدون أن الوجود القانوني الإسرائيلي الذي كانوا يتعاملون معه من وراء حجاب سوف يشكل لهم حاضناً قانونياً لأهداف التقطيع. ومع الوجود الإسرائيلي الرسمي في الخرطوم وفي دول الجوار سوف ينخرطون في المشروع الإسرائيلي بشد الأطراف ثم بترها. إن هؤلاء يلوثون قضية السلام المقدسة ويضعونها في مقابل المصلحة الوطنية.
جماعات أهدرت مصداقيتها السياسية بالانخراط في مؤسسات النظام المباد التنفيذية والتشريعية يجدون في موجة التطبيع فرصة تسلق لدور سياسي في سودان الثورة الذي يدينهم.
بعض شباب لا يدركون أن شعار الثورة حرية، سلام، وعدالة لا يقف عند حدود السودان الجغرافية، ويتوهمون أن مقاطعة إسرائيل هي موقف عربي لا يعنيهم. موقف مقاطعة إسرائيل العنصرية كما كان موقف جنوب أفريقيا العنصرية، يتطلب موقفاً ضد العصبية العنصرية لا تخص العرب والأفارقة وحدهما.
خامساً: حزب الأمة القومي أنقذ السودان من زفة في عام 1953م أوشكت أن تجر السودان لتبعية للخديوية وتحكم الباشوات. زفة انخرط فيها كثير من السودانيين. النداء الوطني الآن ينادينا لإنقاذ السودان من تطبيع هو أداة للتقطيع.
في المرة الأولى لم يكن حزب الأمة منفرداً بل اجتمعت معه قوى أخرى في الجبهة الاستقلالية، والآن لا يقف حزب الأمة منفرداً، ويرجى تكوين الجبهة الوطنية الديمقراطية لحماية السلام من التشويه، ولحماية الوطن من التدمير.
نحن ندعو لسلام ديمقراطي يربط بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية والاقتصاد بأنموذج تنموي جديد وبنهج متوازن في العلاقات الخارجية وللعمل على وقف الحروب البينية وتجنب المحورية والدعوة عن طريق نداء المهتدين لموقف يتجاوز الطائفية بين المسلمين، ونداء الإيمانيين للتعايش والتعاون بين كافة الملل ولنهج يكفل مبادئ حقوق الإنسان الخمسة: الكرامة، والعدالة، والحرية، والمساواة، والسلام، ونهج سياسي يكفل المبادئ الأربعة: المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون.
في هذا المناخ الصحي تكون ولاية الأمر لمختاري الشعب، وتحمي الأمن الداخلي قوتان نظاميتان قوميتان: شرطة وجهاز مخابرات، وتقوم بالدفاع عن الوطن قوات مسلحة موحدة تحمي الدستور ولا تتدخل في التنافس السياسي.
أما الذين يساومون بالوطن فنقول لهم مقولة صاحب المولد صلى الله عليه وسلم عن معاذ بن جبل قال: “ثلاثٌ مَن فَعلَهُنَّ فقَد أجرمَ: مَن عقدَ لواءً في غيرِ حقٍّ، أو عقَّ والدَيْهِ أو مشَى معَ ظالِمٍ يَنصرُهُ”.
لا تنسخ! شارك الرابط بدلا عن ذلك