آخر الأخبار

العودة الى الحياة من تحت الركام.. كيف يتأقلم السوداني مع واقع ما بعد الحرب؟

العودة الى الحياة من تحت الركام.. كيف يتأقلم السوداني مع واقع ما بعد الحرب؟

بقلم – حسام الدين كرنديس
huasmhaska88@gmail.com

بعد أكثر من عامين من الغياب القسري، يعود المواطن السوداني الى دياره التي هجرها بسبب الحرب، ليجد نفسه أمام واقع جديد يختلف عن كل ما عرفه سابقا. فالشوارع التي كانت تضج بالحركة باتت شبه خالية، والمحال التجارية مهدمة، والخدمات الاساسية من كهرباء ومياه وصحة وتعليم شبه معدومة رغم جهود العودة الجزئية. ومع ذلك، يظل الامل حاضرا في عيون الناس، وتظل الارادة السودانية قادرة على تجاوز المحن كما فعلت في أوقات كثيرة من قبل.
هذه العودة ليست مجرد انتقال مكاني من النزوح الى الوطن، بل هي مواجهة حقيقية مع واقع اقتصادي ومعيشي قاس، يتطلب من المواطن اعلى درجات الصبر والوعي والقدرة على التأقلم.

العودة إلى الديار.. بداية التحدي:
مشهد العودة الى الوطن لا يخلو من العاطفة، لكنه أيضا مليء بالوجع. فالكثير من الأسر وجدت منازلها مهدمة او منهوبة، والبعض عاد ليبدأ من الصفر دون مصدر دخل او وسيلة مواصلات او خدمات اساسية. ومع ذلك، اتجه الناس الى اعادة ترتيب حياتهم من جديد بما هو متاح.
العائدون الى العاصمة او الى الولايات بدأوا باصلاح منازلهم بجهود ذاتية مستخدمين أدوات بسيطة، بينما فضل آخرون الاقامة في منازل الأقارب او داخل منازل مؤقتة الى حين توفر الامكانيات. في كل ذلك، يظهر معدن السوداني الأصيل الذي لا ينتظر المساعدة بل يبدأ بما يملك مهما كان قليلا.

التأقلم مع الواقع الاقتصادي الصعب:
الاقتصاد السوداني تدهور بشدة خلال الحرب، وتضاعفت أسعار السلع الأساسية عدة مرات، مما جعل المعيشة اليومية عبئا ثقيلا على اغلب الاسر. ومع اشتداد الغلاء وندرة الموارد، ازدادت المعاناة في كل بيت سوداني، فأصبح تأمين وجبة اليوم تحديا حقيقيا، وشراء الضروريات حلما مؤجلا.
الرواتب لم تعد تكفي حتى لأسبوع، وفرص العمل محدودة، بينما تتصاعد أسعار الإيجارات والوقود والنقل بصورة مرهقة. يعيش المواطن السوداني اليوم حالة صراع يومي مع متطلبات الحياة، لكنه رغم ذلك يحاول ان يصمد وان يجد لنفسه طريقا للعيش ولو بأقل الامكانيات.
هذه الظروف القاسية جعلت من الصبر والرضا والاعتماد على الذات سلاحا للبقاء، فالكثيرون عادوا الى الزراعة والرعي والحرف اليدوية كمصدر دخل بديل، و الابتعاد عن الوظيفه التي أصبحت عبء على الفرد وأسرته، في محاولة لاعادة التوازن لحياتهم بعد الخراب الذي خلفته الحرب.

المرأة السودانية.. عماد الصمود:
لا يمكن الحديث عن التأقلم دون الاشارة الى الدور الكبير الذي لعبته المرأة السودانية في هذه المرحلة. فالكثير من النساء تحولن الى عماد اقتصادي للاسرة من خلال مشاريع صغيرة في الاطعمة والمشغولات اليدوية وبيع المنتجات المنزلية.
في الاسواق الشعبية وامام المنازل، يمكن رؤية النساء وهن يعملن باصرار لتأمين لقمة العيش لأسرهن. هذا الدور لم يكن جديدا على المرأة السودانية، لكنه اليوم أصبح أكثر وضوحا واهمية بعد ان تراجع دخل الرجال بسبب توقف الأعمال او فقدان الوظائف. وهكذا أثبتت المرأة السودانية من جديد انها قادرة على تحويل الازمة الى فرصة.

العمل الجماعي والتكافل الشعبي:
من أبرز مظاهر التأقلم بعد الحرب عودة روح التعاون بين الناس في الأحياء. فقد نظم الشباب مبادرات بسيطة لترميم المدارس وتنظيف الشوارع وجمع النفايات، وبعضهم جمع تبرعات لاعادة تشغيل المراكز الصحية المحلية. هذه الأعمال البسيطة أحيت في الناس احساس المشاركة والمسؤولية تجاه بعضهم البعض، وخلق جو من الأمل والتعاون.
كما عادت المجالس الشعبية في الأحياء لتلعب دورا في حل الخلافات، ومساعدة الاسر المحتاجة، وتنظيم الدعم الإنساني. هذا التكاتف الشعبي يوضح ان المجتمع السوداني ما زال واقفا على رجليه رغم الظروف، وقادر أن يعتمد على نفسه حتى تعود الدولة الى الاستقرار.
في ظل غياب المنظمات الدولية المتدعية الإنسانية، و تجاهلها المتعمد للأوضاع في السودان، و الظروف الصعبة التي يمر بها المواطن السوداني، حتى الدعم البسيط المقدم من بعض المنظمات، لا يصل لمستحقيها، بل يباع في الأسواق

النصائح والتوجيهات للمواطنين العائدين:
للتأقلم مع الواقع الجديد، هناك مجموعة من التنبيهات المهمة التي يجب أخذها بجدية:
التحلي بالصبر والهدوء وتجنب القرارات المتسرعة في البيع او الشراء او العودة الكاملة الى الحياة السابقة دفعة واحدة.
الاعتماد على النفس قدر الإمكان في توفير الاحتياجات اليومية من خلال الزراعة المنزلية او الحرف البسيطة.
العمل الجماعي داخل الأحياء وتنظيم الجهود التطوعية بدل انتظار الدعم الحكومي.
الحفاظ على الصحة النفسية عبر المشاركة المجتمعية وتبادل الدعم المعنوي، لأن الصدمة النفسية بعد الحرب لا تقل خطورة عن الفقد المادي.
اعادة تربية الابناء على الصبر وتحمل المسؤولية وتشجيعهم على المساعدة في اعمال الاسرة والمجتمع.
تجنب الإنفاق الزائد على الكماليات واعتماد أسلوب الاقتصاد في المعيشة حتى تستقر الأوضاع تدريجيا.

آخر الكلام:
ما يمر به السودان اليوم ليس مجرد ازمة اقتصادية، بل مرحلة انتقال اجتماعي ونفسي صعبة تتطلب وعيا جماعيا. فالتأقلم هنا لا يعني فقط التعايش مع الأزمة، بل تحويلها الى نقطة انطلاق جديدة. وعلى الرغم من حجم الدمار والخسائر، إلا أن روح السوداني تظل اكبر من الالم.
لقد أثبت المواطن السوداني في كل مرة أنه قادر على التكيف مع أقسى الظروف دون ان يفقد انسانيته او امله. ومع استمرار الجهود الفردية والجماعية، ومع عودة الثقة بين الناس، ستبدأ الحياة بالتحسن تدريجيا. المستقبل ما زال ممكنا، طالما ان هناك ايمانا بان السودان يمكن ان ينهض من جديد من تحت الركام، اقوى واكثر تماسكا مما كان.

الانضمام لمجموعات سودان إكسبريس في واتساب