أمين حسن عمر يكتب عن إدريس ديبي : “رجل سلام”
الرئيس إدريس… رجل سلام
بقلم: أمين حسن عمر
أنتابتني مشاعر الحزن الكئيب لمقتل الرئيس أدريس ديبي فتجربتي الذاتية معه أنه كان رجل سلام بذل جهده ووقته لتحقيق السلام في دارفور بل وفي سائر مناطق السودان. وقد زرت تشاد منذ العام 2005 بضعا وعشرين مرة كلها متعلقة بجهود كان يبذلها الرئيس إدريس علنا وسرا لصنع السلام في السودان . وقد بدأت مداخلات ديبي في ملف دارفور منذ لحظات التمرد الأولى عندما إستضاف أول لقاء بين الحكومة والمتمردين في تشاد، وجرى توقيع إتفاق وقف إطلاق النار في أبشي تحت إشرافه المباشر. ثم شارك بتدخلات عديدة مع الرئيس أوباسانجو في نيجريا لإنجاح مفاوضات أبوجا. وكان الرئيس إدريس حريصا على إحتواء سوء التفاهم وسوء العلاقة مع السودان وكان يحمل حمولات التدهور في العلاقات للمتشددين من عشيرته و بعضهم أخوته الأشقاء، ويحمله في السودان لمدير جهاز الأمن آنذاك صلاح قوش. وقد سمعت ذلك منه مرارا دون وساطة، ولما بلغت العلاقات دركا بعيدا بدخول قوات مدعومة من الخرطوم لإنجمينا في2006ثم دخول قوات العدل المساواة المدعومة من ليبيا عبر تشاد لأم درمان، كان الرئيس إدريس تحت ضغط مزدوج من العشيرة ومن القذافي الذي مول عملية أم درمان بالكامل. وأذكر أني كنت في وفد قاده مدير جهاز الأمن صلاح عبدالله عندما نقل صلاح لعبد الله السنوسي معلومات الخرطوم بأن التاتشرات التي دخلت أم درمان مايو ،2008جاءت من جهة معلومة ثم ذهبت لجهة معلومة ثم جاءت إلى طرابلس ثم لأم جرس في تشاد وأعطي صلاح عبد الله السنوسي أرقام الشاسي للسيارات. إعترف السنوسي ببساطة قائلا أنهم أرسلوا السيارات لأنجمينا لحمايتها من قوات محمد نور التي تدعمها الخرطوم. ذكرت ذلك للرئيس إدريس فأكتفي بإبتسامة لم يغب عني معناها. وفي العام 2009 نشطت الوساطات الدولية لتحريك المساعى نحو السلام بعد عملية أم درمان وما كان ذلك ممكنا إلا بإصلاح العلاقات السودان التشادية. فأتصل د. غازي بالسيد موسى فكى رئيس مفوضية الإتحاد الأفريقي الآن( ومندوب تشاد في الأمم المتحدة آنذاك ثم وزير الخارجية من بعد) لفتح حوار سري بين البلدين وما علمته من بعد ذلك أن موسى فكي قد حظي بدعم غير محدود من الرئيس للعمل مع غازي الذي حظي هو الآخر بتأييد من الرئيس البشير. ذهبت لتشاد في وفد قاده دكتور غازي مع تمثيل مرافق لنا من جهات أمنية. وكان ذلك في عدة جولات تكللت بإتفاق مكتوب قضى برفع أيادي البلدين من دعم المعارضات. وكانت المفاوضات في غاية السرية وحرص الرئيس أدريس ديبي على إبقائها بعيدا عن دوائر لم تكن راضية برفع الدعم عن حركات التمرد. كان تنفيذ الإتفاق صعبا مع وجود خصوم للإتفاق هناك وهنا بسبب ضعف الثقة أو الأجندات العشائرية لكن الرئيس ديبي و الرئيس البشير دعما الإتفاق بقوة رغم فشل أتفاق سابق بينهما رعته السعودية في مكة لكن الرعاية المباشرة لموسى وغازي والرعاية العليا للبشير وديبي أنقذت الاتفاق الذي لم تكن ليبيا القذافي لتسر به، خاصة و أنه قد جرى من وراء ظهرها. وقد فتح توقيع إتفاق التفاهم بين البلدين الباب لبدء مفاوضات الدوحة في يناير 2009. وكان الوفد التشادي حضورا في أول الجلسات وقبلت الدوحة استقبال زعماء المعارضة التشادية في قطر وذلك حتى الأنتقال لاحقا إلى باريس ،وعندما لم تنجح الجولة الأولى في 9يناير والتى إنتهت بتوقيع ما عرف بإتفاق حسن نوايا لم يكن يعني أكثر من إبداء عزم الطرفين الحكومة وحركة العدل و المساواة الرغبة في مواصلة التفاوض. هنالك تدخل الرئيس أدريس في الجولة الثانية بتبني مشاورات سرية في إنجمينا التى انتقل إليها دكتور غازي وخليل إبراهيم بينما ظللت والأخ د جبريل نقود وفود التفاوض في الدوحة وكانت المداولات تدور بين غازي وخليل وترفع بواسطة موسى فكي للرئيس لذي يتصل مباشرة بالبشير الذي يتصل بغازي فيتصل بنا غازي في الدوحة وهكذا دارت الدائرة بين إنجمينا والخرطوم و الدوحة ثم بالعكس وأستمر هذا التنسيق اللصيق بين الخرطوم و الدوحة مع ما يجري في إنجمينا حتي تبلورت نتائج إنجمينا في التوصل لإتفاق المباديء بالأحرف الأولى والذي جرى توقيعه من بعد في الدوحة.
نجحت جهود الرئيس أدريس ديبي في التوصل للتوقيع إتفاق المباديء مع حركة العدل و المساواة ولما تعثرت الجهود في مرحلة التفاصيل مارس الرئيس ضغطا على الحركة لإبداء قدر مناسب من المرونة وأدت تلكم الضغوط إلى توتر العلاقة بين الطرفين لدرجة منع قيادة و أعضاء الحركة من الدخول لتشاد ثم إنصرفت الجهود التشادية لضم المزيد من الحركات للتوقيع إتفاق المباديء ومن ثم المضي إلى مناقشة التفصيل وكانت جهود الرئيس حاضرة في الدوحة مع حركة التحرير والعدالة ثم مع مجموعة محمد بشر التي مثلت القيادة الميدانية ثم مع مجموعة حركة تحرير السودان الثورة الثانية ومجموعات أخرى بعضها وقع على السلام محليا مثل مجموعة القائد محمدين وبذلت جهود مع حركات أخرى قطعت نصف الطريق وتوقفت ثم دخل الرئيس إدريس على خط مصالح القبائل على الحدود بين البلدين ونشأت قوة حماية الحدود المشتركة و مشروعات تنمية المناطق الحدودية ثم قدم مبادرة قطعت شوطا للتوسط في قضية المنطقتين وكان يرعى هذه المبادرات شخصيا ولا يشارك فيه إلا عدد لا يتجاوز أربعة أو خمسة أشخاص وفي واحدة من هذه المبادرات لم يكن إلا الرئيس ووزير خارجيه آنذاك موسى فكى و الأطراف. كان الرئيس أدريس يدرك الأبعاد الإستراتيجية لقلب المعادلة مع السودان لتكون علاقة كاسب كاسب لا علاقة خاسر خاسر وكانت رؤيته في ذلك واضحة وكان عزمه على تحقيقه ناجز باتر… رحم الله الرئيس إدريس بخير مما نوى وخير مما عمل وأخلف على بلده من بعده بخير كثير.