قراءة في ميثاق “حكومة الدعم السريع”

(الحلقة الأولى)
بقلم: جمال عبدالعال خوجلي
إستضافت كينيا الأسبوع الماضي إجتماعات متتالية للإتفاق على ميثاق (مانفستو) تؤسس عليه حكومة الدعم السريع التي تنوي إقامتها إسفيريا أو مكانيا (بحسب تمدد العمليات العسكرية الجارية حاليا في مختلف مناطق السودان). الخطة الأساسية للهجوم الذي إبتدرته قوات الدعم السريع في منتصف أبريل 2023م هو الإنقضاض على الحكومة السودانية والقبض على قائد الجيش أو قتله كما صرح بذلك علنا قائد الدعم السريع قبل إختفائه هو، وخروج قائد الجيش الى بورتسودان. تمدد الدعم السريع بعد مجزرة الجنينة في مايو 2023م ليمضي لتنفيذ جرائم مشهودة قتلا وإغتصابا وتدميرا وسرقة وثقتها المنظمات الأممية ويهجر ملايين السودانيين من ولايات الخرطوم والجزيرة وسنار والنيل الأبيض والنيل الأزرق، وليحل في منازلهم وأعيانهم وبديلا عنهم من أتي بهم الدعم السريع من عرب الشتات من مختلف الدول.
إمتص الجيش السوداني الصدمة وأعاد ترتيب صفوفه التي إنضم إليها الآلاف من عموم السودانيين منهم المجاهدين السابقين والمستنفرين الحاليين ومجموعات الحركات المسلحة التي ذاقت الأمرين من الجنجويد منذ العام 2005م. عاد الجيش السوداني متمكنا من أم درمان ومستعيدا لمواقعه ومحررا لولايات سنار والجزيرة ومناطق واسعة في الخرطوم هزمت فيها مجموعات الدعم السريع هزائم مريرة أوضحت قوة الجيش السوداني المهنية وصحة ترتيباته وخططه العسكرية. وقتها علت أصوات كانت خافته من داخل الحاضنه السياسية للدعم السريع تتحدث عن ضرورة تشكيل حكومة موازية تنطلق من دارفور حيث ينتشر الدعم السريع ووسط حاضنته الإجتماعية. صدى هذه الأصوات إنتهي لخروج جزء من الحاضنة السياسية وإنشطار قحت/ تقدم الى مجموعات مضي جزء منها مواليا وداعما ومشاركا في تأسيس منطلقات الحكومة الموازية. هكذا إنتقلت ترتيبات المخطط للخيار(ب) بتشكيل حكومة موازية تضمن إستمرار الحرب ووجود لافتة الدعم السريع التي تراجعت تماما وإندحرت عسكريا في كل المعارك وفي غالب الولايات عدا دارفور. ذلك سيضمن مكاسب عند التسوية السياسية بنهاية الحرب.
لتنفيذ ذلك، عمد المخططون الى محاصرة الحكومة السودانيية خارجيا بتأثير مباشر على دول الجوار، كينيا وأثيوبيا وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان إضافة لتشاد التي غدت مركزا رئيسيا للإمداد بالعتاد والسلاح الخارجي للدعم السريع. يضمن ذلك تمدد التدخلات الخارجية في الشأن السوداني ولربما مضت الى أجندة ومصالح أجنبية تمضي إلى فصل دارفور وكردفان عن بقية السودان، وما انفصال الجنوب ببعيد بعد ان تمددت الأيادي والمنابر الخارجية لتنال من وحدة السودان وأهله. تكررت ذات المشاهد وفتحت كينيا ابوابها ومنابرها لمخطط مماثل يمضي على ذات منوال ليبيا واليمن. قبلت كينيا أن تقوم بالدور وتفتح أراضيها للمؤامرة، وهي الدولة التي تعرضت أواخر العام ٢٠٠٧م لذات النزاعات السياسية والقبيلة عقب الانتخابات، وقتها سقط آلاف الأبرياء من القتلي والنازحين في مدن كينيا المختلفة، وقتها رفضت كينيا كل أشكال ومبررات التدخل الخارجي. واليوم لا تسعف الذاكرة كينيا وهي تجسد دور التدخل الخارجي وتمهد الطريق لتقسيم السودان وتمزيق وحدته وتقدم المنصة الدعم المطلوب لذلك.
جمع المخططون الشتات والتناقض من هنا وهناك مع الدعم السريع للتوهم بأن من يقف وراء الخطة قوم معتبرون سياسيا وإجتماعيا من مختلف مناطق السودان وأنفقت الأموال بلا حساب لتنفيذ المخطط كما أكد عدد من المشاركين أنفسهم، نتج عن جمع التناقضات تأخير التوقيع لمرتين وإلغاء للمؤتمر الصحفي الذي أعلن عنه في نيروبي، هذا عدا عن تصريحات مشككه وضعيفه من بعض المشاركين حول ما هية تفاصيل الوثيقة والميثاق وما يتبعه من خطوات، وإلى أين ستمضي؟ ومن سيقودها ويشكل حكومتها ؟ ومن يمولها ؟ وأين سيكون مقر هذه الحكومة؟ …الخ وغيرها من الأسئلة.
وقبل أن نخوض في قراءة الميثاق الذي من المفترض أن تؤسس عليه حكومة الدعم السريع الموازية للحكومة السودانية القائمة، يجدر أن نجيب على سؤال المدخل لهذا الحدث:
لماذا إنعقد اللقاء في نيروبي؟
اللقاء في نيروبي إنعقد تأسيسا على ما يجمع قائد الدعم السريع والرئيس الكيني من علاقة قديمة بدأت منذ كان الثاني نائبا للرئيس الكيني، توثقت بشراكة إقتصادية بينهما في إستخراج الذهب من عدة مناطق بالسودان، وربطت الرجلين تفاصيل المخطط الخارجي الذي يرمي لإستغلال موارد السودان والتحكم في ثرواته وإدارة موارده وسلطته. هكذا أصبح روتو منحازا، بل ومتبنيا لسردية الجنجويد منذ أول تدخل له في النزاع المسلح في السودان العام 2023م ومحاولته قيادة لجنة الإيقاد التي لم يكن إبتداء طرفا فيها. من تلك البداية وحتى البيان الأخير الذي صدر عن الحكومة الكينية الاسبوع الماضي تأكد بوضوح الموقف الكيني المنحاز للدعم السريع. أولى وأهم نقاط البيان الكيني هي غياب الإشارة المباشرة إلى وحدة أراضي السودان،وهو أمر متعارف عليه دبلوماسيا، ما يعني دعم كينيا لتقسيم السودان باقامة حكومة أخرى تحكم أجزاء منه، وعمليا تقسيم البلاد، وذلك ما ورد في ميثاق التأسيسي الموقع في نيروبي.
لتأكيد ذلك، ذكر البيان “حق الشعب السوداني في تقرير مصيره”، وهو تعبير واضح يفتح الباب الى إعادة تقرير مصير أجزاء من السودان وخروجها من الحكومة المركزية، وهو إعتراف ضمني بدور قوات الدعم السريع كفاعل سياسي يمثل مجموعات من الشعب السوداني تختار دولتها كما تري وترغب، يخرج كينيا تماما عن الحياد ويؤكد إلتزامها بمسار المخطط وما تقوم به الدعم السريع. استضافة قوات الدعم السريع في نيروبي لا تأتي في سياق وساطة، وإنما كجزء من موقف كيني في التعامل مع الأزمة السودانية.
لا يمكن مقارنة هذا الموقف الكيني بمحادثات مشاكوس/ نيفاشا 2002، الذي كان نتاج عملية تفاوضية تحت إشراف الإيغاد وبمشاركة طرفي النزاع (الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان)، اللقاء الأخير بنيروبي جمع فقط مجموعات الدعم السريع ومناصريهم، وهدف لتشكيل حكومة موازية دون حضور الطرف الآخر (حكومة السودان أو حتى القوات المسلحة). غياب الطرف الآخر يفقد الحدث صفة الوساطة أو المفاوضات أو المحادثات. إنعقاد المؤتمر بقرار كيني منفرد يضعف مصداقية الرئيس روتو كوسيط، ويعزز الشكوك حول حياده ويؤكد إنطباع السودانيين بأن كينيا منحازة للدعم السريع. أكد ذلك الدعم المالي الإماراتي لكينيا بمئات الملايين من الدولارات وتمويل آخر بأكثر من مليار آخر.
يجمع بين حميدتي وروتو أيضا النزعة العرقية التي يقوم عليها كليهما، ففي الإنتخابات الكينية عام 2007، إندلعت احتجاجات عنيفة في البلاد بدعوى تزوير الانتخابات، وأخذت الاحتجاجات طابعا عرقيا، وشاركت فيها عرقية الكالينجين (قبيلة روتو) وغيرها، الأمر الذي أصدرت على إثره المحكمة الجنائية الدولية في ديسمبر2010م قائمة بالمسؤلين عن التحريض على العنف، من بينهم الرئيس روتو، وإتهمتهم بإرتكاب جرائم ضد الإنسانية وبتنظيم وتنسيق لهجمات دموية مسلحة استهدفت مجموعات عرقية.
كينيا التي تتدخل الآن في الشأن السوداني لا تنفك عنها الأزمات منذ العام 2007 وحتى العام الماضي، فمن دوامة الإقتتال إثر إنتخابات 2007م والتي خلفت المئات من القتلى ومئات آلاف الجرحى والنازحين، مرورا بأحداث القتل في 2013م إثر الإنتخابات التي جمعت إثنان أهورو كينياتا ورفيقه وليام روتو، وهما من بين أربعة أشخاص وجهت إليهم المحكمة الجنائية الدولية اتهامات بشأن حمام الدم الذي وقع في الإنتخابات السابقة، ثم التدخل الكيني في الصومال والذي تبعه رد فعل مماثل صومالي في كينيا أودي بحياة المئات، ثم أعمال العنف التي صاحبت إنتخابات العام 2022م والتي إتهم روتو بتزويرها لصالحه ليصبح رئيسا بعد ستة أيام من صمت لجنة الإنتخابات.
لم تستقر الأوضاع الإقتصادية في كينيا، وتكررت الاحتجاجات العنيفة مع إستمرار التضخم الإقتصادي في الارتفاع مع تراجع مقدرات الكينيين الشرائية، ما دعا الحكومة الكينية لسن قوانين مالية جديدة تفرض زيادات ضريبية كبيرة على المواد الأساسية. إندلعت التظاهرات وتحولت إلى تعبير شعبي عن السخط إزاء طبقة سياسية يُنظر إليها على أنها فاسدة وسقط العشرات قتلى في التظاهرات، وانتقدت الامم المتحدة الحكومة الكينية لاستخدامها “القوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميين”، واتهمها “بالفشل في حماية مواطنيها أثناء ممارسة حقوقهم الديمقراطية” ما دعا الرئيس الكيني للتراجع عنها. أوشكت حكومة روتو على السقوط وضحى بإقالة غالب وزرائه. الوضع الإقتصادي المتردي فتح الباب للمخطط الخارجي لإبتزاز الرئيس الكيني بالدعم الإقتصادي، فوقعت الإمارات وكينيا اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة، ووعدت روتو بمئات الملايين من الدولارات فورا ومن ثم دعما بأكثر من مليار دولار بإسم “تعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية بين البلدين”. هكذا إنضمت كينيا لمخطط تدمير وحدة السودان وتقسيمه وأقيم المؤتمر التأسيسي لذلك في 19 فبراير 2025م لتقديم مليشيات الدعم السريع بواجهة سياسية وغطاء مدني من بعض الموالين قبليا ومناطقيا وبعضا ممن أغراهم الدعم المالي.
في المقابل إستنكر مسؤولون كينيون هذه الخطوة تشكل دعمًا ضمنيا لقوات الدعم السريع في صراعها ضد الحكومة السودانية، ومنهم برلمانيون ووسائل إعلام أكدوا أن هذا التصعيد يزيد من تعقيد العلاقات الثنائية بين الخرطوم ونيروبي في وقت حساس تمر فيه كينيا بتحديات في أوضاعها الداخلية والخارجية. توقع عدد من القيادات السياسية الكينية ألا يقبل الأفارقة بالدور المنحاز الذي تلعبه حكومتهم ضد الحكومة السودانية وذلك ما حدث بالفعل في أول محفل أفريقي جامع، إذ سقط المرشح الكيني (رئيس الوزراء الأسبق) في إنتخابات رئاسة مفوضية الإتحاد الإفريقي أمام مرشح جيبوتي (وزير خارجيتها)، ما عد إنتكاسة كبري للسياسة الكينية ووزنها الإفريقي.
كذلك يتوقع الكينيون ردات فعل سياسية وإقتصادية من الحكومة السودانية تلقي بظلالها على العلاقات بين البلدين وربما تقود لتعقيدات حادة في عدة مجالات ومحاور ضارة بكينيا.
ما المجموعات والأفراد الذين حضروا لقاء الميثاق ومن يمثلون؟
فبعد فشل مشروعها الأساسي بهزيمة الجيش السوداني وتدميره والإستيلاء على الحكم بكامل البلاد، لجأت المؤامرة الخارجية للخطة ( ب) بالإعلان عبر مجموعات الدعم السريع عن ميثاق تاسيسي يمضي لتشكيل حكومة موازية في مناطق سيطرة الدعم السريع. المجموعات التي إنضمت للدعوة لاتعدو كونها إنشطارات صورية عن أحزاب تقليدية معروفة بموقفها ضد الدعم السريع منذ تأسيسه إبان حكم الإنقاذ، من وقع عن حزب الأمة لم يستذكر موقف الإمام الصادق المهدي عليه رحمة الله من الجنجويد وجهره بكلمة الحق منتصف العام 2014م والتي أكد فيها ” ارتكاب قوات الدعم السريع جرائم حرق للقرى ونهب لممتلكات المواطنين، وضم عناصر غير سودانية إلى صفوفها”. موقف الحزب ممن وقع بإسمه كان سريعا وحاسما بإقالتة من رئاسة الحزب. كذا كان نفس الموقف لمن وقع باسم الحزب الإتحادي الديمقراطي. أما بقية من وقع من المدنيين والواجهات واللافتات التي حشدت في نيروبي، فلايقف وراءها مد جماهيري ولا بعد سياسي. ما تبقى من حركات مسلحة وقعت إتفاق جوبا ولم تنحاز للجيش السوداني هي أيضا تعاني من تعقيدات قبلية ومناطقية أفقدتها عدد كبير من مقاتليها وأصبحت مرتهنة بيد الدعم السريع ماليا وسياسيا. حضر لقاء الميثاق رئيس الحركة الشعبية-شمال السيد عبد العزيز الحلو، المعروف عنه رفضه لإي إتفاق أو توافق مع أي حكومة مرت على البلاد طوال الحقب السابقة وحتى حكومة الثورة. فرض الحلو على الميثاق بنوده وشروطه ومنها العلمانية وفصل الدين عن السياسة. أيضا إنتهت مجموعته الى تشتت و استقال عدد من كوادر الحركة وانتقدوا مواقفه بشدة.
بهذا التناقض جاء التأسيس لخطة التقسيم، لافتات مدنية ضعيفة تلتف حول الدعم السريع لتقدم الغطاء المطلوب، تماما كما حدث في ليبيا حفتر ونموذج المجلس الإنتقالي في اليمن. ظهر الدعم السريع متسيدا للمشهد، مقدما المشاركين كمتحالفين معه وداعمين له. صورة إنقسام وتشظي الأحزاب التقليدية تعزز مخطط الانقسام الجهوي والجغرافي المطلوب لفرض المخطط الخارجي وتقسيم البلاد.
تسارعت الخطى لإنعقاد لقاء الميثاق، والواضح أن التقدم العسكري للجيش السوداني الذي يتوسع يوما بعد يوم هو الدافع الرئيسي لذلك، قبل أن يفقد الدعم السريع ما يحتله حاليا من مناطق يمكن أن تنطلق منها ولو شكليا ما سموه بحكومة السلام المدنية. المخطط يتطلع للتشبث بمناطق دارفور التي تتوفر فيها مطارات تستقبل الدعم الخارجي، خاصة الدعم العسكري الثقيل الذي يمكن أن يوقف تقدم الجيش وإنتصاراته. ظهرت أهداف اللقاء قبل أن تقدم ورقة الميثاق حينما أكد أفراده أن الدعم الخارجي بإنتظار إجتماعهم وتشكيل حكومتهم الموعودة.
هكذا تتسارع الخطى من جانبين:
القوات المسلحة التي يقف خلفها الشعب السوداني مستنفرين وداعمين، متطلعين للعودة لمنازلهم ودورهم لإعادة حياتهم الطبيعية بعد قتل ونهب وسرقة مليشيات الدعم السريع لأرواحهم وممتلكاتهم
و مخطط الخارج عبر مليشيات الدعم السريع وداعميه بتثبيت أقدامهم في نيالا والجنينة والضعين وكاودا ليكون للمخطط مساحة جغرافيه يوهم بحكمها، وتهبط فيها طائرات الحرب تحمل الدمار للسودان.
في الحلقات القادمة
نواصل قراءة جوانب قضايا الدولة وفصل الدين عن السياسة وترتيبات الحكم في ميثاق التأسيس للحكومة المنتظرة.